فصل: باب القسامة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الشهادة في الديات:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ خَطَأً وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْقَاتِلِ بِذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِفِعْلٍ، وَالْآخَرَ بِقَوْلٍ، وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي إلَّا بِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى الْقَتْلِ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ الْمَكَانِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ خُصُوصًا الْقَتْلُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَا يَشْهَدُ بِهِ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَشُهُودِ الْغَصْبِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ، ثُمَّ هَاهُنَا الْقَاضِي يُوقِنُ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا قَبِلَ فِي يَوْمٍ وَفِي مَكَان لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِي مَكَان آخَرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَبَعْدَمَا تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ الشَّاهِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا قَتَلَهُ بِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ بِحَجَرٍ وَقَالَ الْآخَرُ: بِعَصًا؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، فَالْقَتْلُ بِالْحَجَرِ غَيْرُ الْقَتْلِ بِالْعَصَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ خَطَأً، فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ الْعَمْدِ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ: لَا أَحْفَظُ الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: لَا أَحْفَظُ ضَيَّعَ بَعْضَ شَهَادَتِهِ وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسِّلَاحِ وَلَا يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ مُخَالِفًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَاهِدٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: لَا نَدْرِي بِمَ قَتَلَهُ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا وَلِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْآلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ فَأَمَّا إذَا قَالَا: لَا نَدْرِي فَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ بَيَانُهُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا وَنُوجِبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ اتِّفَاقُهُمَا فِيمَا صَرَّحَا بِهِ فِي شَهَادَتَيْهِمَا وَذَلِكَ أَصْلُ الْقَتْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصٍّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَأَصْلُ الْقَتْلِ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَيْهِ يَكُون اتِّفَاقًا عَلَى هَذَا الْمُوجِبِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشُّهُودُ لِذَلِكَ وَبِاخْتِلَافِ الْآلَةِ إنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْقِصَاصِ.
فَتَوَهُّمُ اخْتِلَافِ الْآلَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ هُنَا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ عَنْهُ مَعْنَى الشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَمْدًا لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَمَعَ الشَّكِّ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَتْ فِي مَالِهِ يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَرَفَا الْآلَةَ، وَأَنَّ الْفِعْلَ كَانَ عَمْدًا بِسِلَاحٍ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ، وَالْفِعْلُ الْمُطْلَقُ يَكُونُ بِآلَتِهِ وَآلَةُ الْقَتْلِ السِّلَاحُ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُطْلَقُ يَكُونُ مِنْ الْعَامِدِ إلَّا أَنَّهُمَا سَتَرَا ذَلِكَ لِدَرْءِ الْقَوَدِ وَيُحْمَلُ الْوَلِيُّ عَلَى أَنْ يَكْتَفِيَ بِالدِّيَةِ، وَقَدْ نُدِبَا إلَى ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا شَهَادَتَهُمَا، بَلْ- يَقْضِي بِالدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ شَهَادَتِهِمَا.
وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ جَائِزَةٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَفِي كُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا تَجُوزُ فِيمَا فِيهِ قِصَاصٌ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ، وَالنِّسْيَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا بَدَلٌ وَفِي الْبَدَلِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْأَصْلِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَيَثْبُتُ بِهِ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْمَالُ، ثُمَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقِصَاصِ لَا يَقْضِي بِالْمَالِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ بَعْدَ مَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ يَقْضِي بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقَوَدِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِقَامَةِ حُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ، وَالْوَلِيُّ لَا يَنْفَرِدُ بِأَخْذِ الْمَالِ بِدُونِ رِضَا الْقَاتِلِ وَهُنَاكَ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقَوَدِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالْخَطَأِ، فَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّضَا مِنْهُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مَكَانَ الْقِصَاصِ بِرِضَا الْقَاتِلِ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنْ أَخْذِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ، وَهُوَ الْمَالُ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي إنَّمَا يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ هَاهُنَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَلَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِالْعَمْدِ حُبِسَ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ، وَالسَّبِيلُ فِي الْمُتَّهَمِ أَنْ يُحْبَسَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي التُّهْمَةِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يَعْدُو عَلَيْهِ وَيَقُولُ أَجِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مِنْ مَاذَا فَقَالَ مِنْ الدَّمِ فَقَالَ احْبِسُوهُ الْحَدِيثَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ فِي الْعُقُوبَاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّوَثُّقِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَأَنَّهُ يُصَارُ فِيهِ إلَى الْحَبْسِ، فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ حَبَسَهُ أَيْضًا أَيَّامًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ بِالْحُجَّةِ فَتَثْبُتُ بِهِ التُّهْمَةُ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا؛ وَلِأَنَّ لِلشَّهَادَةِ شَرْطَيْنِ: الْعَدَدُ، وَالْعَدَالَةُ، وَقَدْ وُجِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ هَاهُنَا، وَهُوَ الْعَدَالَةُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ وَلَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمْ فَكَمَا يُحْبَسُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ يُحْبَسُ هَاهُنَا، فَإِنْ جَاءَ شَاهِدٌ آخَرُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَالْعَمْدُ فِي ذَلِكَ، وَالْخَطَأُ وَشِبْهُ الْعَمْدِ سَوَاءٌ.
وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُحْبَسَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الْمَالُ وَفِي الدُّيُونِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْمُؤَجَّلَةِ لَا يُحْبَسُ مَا لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ لِظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ فَفِيمَا يَكُونُ مُؤَجَّلًا إلَى الْعَاقِلَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَّهَمَ بِالدَّمِ يُحْبَسُ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مُوجِبُهُ؛ لِظُهُورِ عُذْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ انْتِفَاءِ عُذْرِهِ، فَإِذَا ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ، وَالْقَتْلُ خَطَأٌ أُخِذَ بِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِخِلَافِ مَا إذَا زَعَمَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ غَيْبٌ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى دَعْوَى الدَّيْنِ، فَالْخَطَأُ مُوجِبُ الدِّيَةِ دَيْنًا.
وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِي دَعْوَى الدُّيُونِ صَحِيحٌ إذَا ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُصَارُ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَلَكِنْ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُلَازِمُهُ الْمُدَّعِي وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَحْبِسُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.باب القسامة:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْسِمَ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ.
بَلَغَنَا هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجُوا فِي التِّجَارَةِ إلَى خَيْبَرَ وَتَفَرَّقُوا بِحَوَائِجِهِمْ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ خَيْبَرَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرُوهُ فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَخُو الْقَتِيلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكِبَرَ الْكِبَرَ، فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ مِنْهُمَا وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَمَنْ قَتَلَهُ قَالُوا: وَمَنْ يَقْتُلُهُ سِوَى الْيَهُودِ قَالَ: تَبَرُّكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا، فَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ».
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وُجِدَ فِي حَيٍّ لِيَهُودَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: فَأَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ وَفِي رِوَايَةٍ «فَكَتَبَ إلَيْهِمْ إمَّا أَنْ يَدُوهُ، أَوْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ إنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَمَا الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْكُمْ فَكَتَبُوا إلَيْهِ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرًا، فَإِنْ كُنْت نَبِيًّا فَاسْأَلْ اللَّهَ مِثْلَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَانِي أَنْ أَخْتَارَ مِنْكُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ قَالُوا: لَقَدْ قَضَيْت فِينَا بِالنَّامُوسِ يَعْنِي بِالْوَحْيِ» وَرَوَى حُنَيْفٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ: «اخْتَرْ مِنْ شُيُوخِهِمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا قَالَ: وَلَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا قَالَ: نَعَمْ وَمِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ وَكَانَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبُ فَقَضَى عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فَقَالَ حَارِثُ بْنُ الْأُصْبَعِ الْوَادِعِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَيْمَانُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَمْوَالِنَا وَلَا أَمْوَالُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَيْمَانِنَا فَقَالَ: حَقَنْتُمْ دِمَاءَكُمْ بِأَيْمَانِكُمْ وَأُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ عَلَى أَهْلِهَا وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَأْتِي مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ؛ لِيُقْتَلَ مُخْتَارًا فِيهَا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِقُوَّتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ فَكَانُوا كَالْعَاقِلَةِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ صِيَانَةً لِدَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ وَأَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ لِرَجَاءِ أَنْ يَظْهَرَ الْقَاتِلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَتَخَلَّصَ غَيْرُ الْجَانِي إذَا ظَهَرَ الْجَانِي؛ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةٍ حِفْظُ مَحَلِّهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَيْهِمْ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لِتَفْرِيطٍ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْحِفْظِ حِينَ تَغَافَلُوا عَنْ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، وَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَوْثٌ وَتَأْثِيرُهُ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِدُخُولِهِ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَى أَنْ وُجِدَ قَتِيلًا يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ بِأَنْ يُعَيِّنَ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ اللَّوْثِ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْقَاتِلِينَ أَوْ يَكُونَ هُوَ مَشْهُورًا بِعَدَاوَتِهِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَإِذَا حَلَفَ اُقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْقَاتِلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: فَإِذَا حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَوْ أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يَحْلِفَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ» وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْوَلِيِّ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ» وَقَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَتَلْنَا قَاتِلَ وَلِيِّنَا فِي الْقَسَامَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا حُجَّةٌ سِوَى اللَّوْثِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ» فَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقَسَامَةِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي جَانِبِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُدَّعَى، وَهُوَ الْقَوَدُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُرَجِّحُ جَانِبَهُ، وَلَكِنْ بِحُجَّةٍ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَأَمَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ قِيَامِ اللَّوْثِ وَقُرْبِ الْعَهْدِ فَيَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ وَحُجَّتُنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» الْحَدِيثَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْيَمِينَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ صَالِحَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ فَلْسٍ بِهَا فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً لِاسْتِحْقَاقِ نَفْسٍ خُصُوصًا فِي مَوْضِعٍ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ الْحَالِفَ مُجَازِفٌ يَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِحَالٍ مُحْتَمَلٍ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ اللَّوْثُ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَلَا تَكَادُ تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، أَوْهَمَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» وَلَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى طَرِيقِ الْأَمْرِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ لَكَانَ يَقُولُ أَتَحْلِفُونَ فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ فَعَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَحْلِفُونَ مَعْنَاهُ أَتَحْلِفُونَ كَقَوْلِهِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ أَتُرِيدُونَ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى مِنْهُمْ الرَّغْبَةَ فِي حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ أَبَوْا أَيْمَانَ الْيَهُودِ وَبِقَوْلِهِمْ: لَا نَرْضَى بِيَمِينِ قَوْمٍ كُفَّارٍ.
فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ فَلَمَّا عَرَفُوا كَرَاهَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ رَغِبُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ بِنَقْلِ الْقَتِيلِ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى إلَى مَحَلَّتِهِمْ فَصَارُوا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْيَمِينَ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رُؤَسَاءُ النَّاسِ فَخُوصِمَ إلَيْهِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ وَأَبُو قِلَابَةَ جَالِسٌ عِنْدَ السَّرِيرِ أَوْ خَلْفَ السَّرِيرِ فَقَالَ النَّاسُ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُمْ فَنَظَرَ إلَى أَبِي قِلَابَةَ، وَهُوَ سَاكِتٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ قَالَ: عِنْدَك رُؤَسَاءُ النَّاسِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ ثَمَّ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَمْ يَرَيَاهُ أَكُنْت تَقْطَعُهُ فَقَالَ: لَا قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْت تَرْجُمُهُ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ إلَّا رَجُلًا كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إيمَانِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَانْقَادَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمَرَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْقَوَدُ فِي الْقَسَامَةِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ؛ فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو قِلَابَةَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ يَعْنِي الْأَيْمَانَ مُكَرَّرَةً فِي الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى مَعْنَاهُ لَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِالْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ، بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى، ثُمَّ إنَّمَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ هُنَا دُونَ حَالِ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ خَطَأً وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَةُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهَاهُنَا أَوْلَى.
، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسُونَ رَجُلًا كُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ الْأَيْمَانُ حَتَّى يُكْمِلُوا خَمْسِينَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ وَدَاعَةَ كَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَحَلَّفَهُمْ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ وَاحِدًا فَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْعَدَدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ تَكْرَارُ الْيَمِينِ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ وَلِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ أَنْ يَخْتَارُوا فِي الْقَسَامَةِ صَالِحِي الْعَشِيرَةِ مِنْ الَّذِينَ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْقَتِيلُ فَيُحَلِّفُونَهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِ الْقَتِيلِ «اخْتَرْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا» فَدَلَّ أَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ، وَهُوَ حَقُّهُ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُ مَنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَقَّهُ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الشُّبَّانَ، وَالْفَسَقَةَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِمْ أَظْهَرُ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْمَشَايِخَ، وَالصُّلَحَاءَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَرَّزُ الْفَسَقَةُ، فَإِذَا عَلِمُوا الْقَاتِلَ مِنْهُمْ أَظْهَرُوهُ وَلَمْ يَحْلِفُوا وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ قِيَاسًا لِأَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ يَجْرِي فِي الدِّيَةِ وَلَا يَجْرِي التَّحَمُّلُ فِي الْيَمِينِ.
وَلَوْ اخْتَارُوا فِي الْقَسَامَةِ أَعْمَى، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أُسْوَةُ غَيْرِهِمْ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلْيَمِينِ، وَالنُّكُولِ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَيْهِمْ دُونَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اللِّعَانِ فَإِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ، وَالْأَعْمَى لَيْسَ لَهُمَا شَهَادَةُ الْأَدَاءِ فَأَمَّا هَذِهِ فَيَمِينٌ مَحْضَةٌ قَالَ فِي الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ يَلْزَمُ أَهْلَ الدِّيوَانِ، وَالْمُعَاقَلَةُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَلَا يَلْزَمُ النِّسَاءَ، وَالذُّرِّيَّةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الرَّجُلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْبَعَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَفَرَضَ الْأَعْطِيَاتِ جَعَلَ الْمَعَاقِلَ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْبَعَةً وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ هُمْ الْعَشِيرَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ قُومُوا فَدُوهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا كَانَتْ الدَّوَاوِينُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَرَابَةِ بَعْدَ الدِّينِ فَلَمَّا دَوَّنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ التَّعَاقُلَ بِالدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ، وَالتَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ دُونَ الْقَبِيلَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى يَقُومُ بَعْضُهُمْ بِنُصْرَةِ بَعْضٍ وَرُبَمَا تَظْهَرُ الْعَدَاوَةُ مَعَ مَنْ هُوَ مِنْ قَبِيلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ آخَرَ أَكْثَرَ مِمَّا تَظْهَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ كَانَ يَقُومُ أَهْلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ أَحَدِ الصَّفَّيْنِ بِمُقَاتَلَةِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ مِنْ الصَّفِّ الْآخَرِ، ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ الْقَدْرُ الَّذِي سُمِّيَ، فَإِنْ لَمْ يَسَعْ دِيوَانُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ فِي النَّسَبِ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْبَعَةٌ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ النِّسَاءُ، وَالذَّرَارِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَا تَقُومُ النُّصْرَةُ بِهِمْ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ، وَالْقَبَائِلِ.
وَاَلَّذِي حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَاَلَّذِي لَمْ يَقْبَلْ، وَلَمْ يَشْهَدْ فِي ذَلِكَ كُلٌّ سَوَاءٌ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ، وَقَدْ اسْتَوَى فِي الْأَعْطِيَاتِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ، وَمَنْ غَابَ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ كَانَ غَائِبًا، وَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ سَوَاءٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مَنْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا حِينَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَا أُدْخِلُهُ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ تُهْمَةِ الْقَتْلِ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا فِي حِفْظِ الْمَحَلَّةِ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا حِين وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا تُهْمَةُ الْقَتْلِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ، وَالْمَشَايِخَ وَصَالِحِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَحْلِفُونَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ تُهْمَةِ الْقَتْلِ شَيْءٌ وَهَذَا السَّبَبُ لَا يَنْعَدِمُ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ الْمَحَلَّةِ.
، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ، أَوْ سِكَّتَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ أَقْرَبُ بِشِبْرٍ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ»، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ أَمَرَ بِأَنْ يُقَاسَ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَكَانَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبَ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ مَنْ يَقْرَبُ مِنْ مَوْضِعٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِحِفْظِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالتَّدْبِيرُ فِيهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الدَّمِ، وَمَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ مَقْصُودٌ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيُوَفِّيَ كَمَا كَلِمَاتُ اللِّعَانِ.
وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى فِيهِمْ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ، وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا مِنْ الْيَهُودِ»، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَعَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَفِي أَمْوَالِهِمْ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْقَتْلَ خَطَأً.
، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ بِالْكُوفَةِ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَفِيهَا مَنْ قَدْ اشْتَرَى مِنْ دُورِهِمْ فَالْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ السُّكَّانِ، وَالْمُشْتَرِينَ وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ فِي الْمَحَلَّةِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ كَأَصْحَابِ الْخُطَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْبَائِعِ وَلِأَنَّهُمْ مُلَّاكٌ لِبَعْضِ الْمَحَلَّةِ كَأَصْحَابِ الْخُطَّةِ وَفِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ رَجُلٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّارِ مُشْتَرِيًا، أَوْ صَاحِبَ خُطَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: صَاحِبُ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَحَلَّةَ تُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِينَ قَلَّ مَا يُزَاحِمُونَ أَهْلَ الْخُطَّةِ فِي التَّدْبِيرِ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ فَكَانَ صَاحِبُ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِحُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِهِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمَّا كَانَ هُوَ أَخَصَّ بِالتَّدْبِيرِ فِي دَارِهِ كَانَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُشْتَرُونَ أَتْبَاعٌ لِأَصْحَابِ الْخُطَّةِ وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ دُونَ التَّبَعِ وَقِيلَ: إنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْخُطَّةِ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ هُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَمُشْتَرُونَ فَهِيَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ، وَقَدْ كَانُوا سُكَّانًا».
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَاهُمْ مِنْهَا إلَى الشَّامِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إلَى أَصْحَابِ الْمِلْكِ دُونَ السُّكَّانِ؛ لِأَنَّ السُّكَّانَ يَتَنَقَّلُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ دُونَ أَصْحَابِ الْمِلْكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَنْبَنِي مِنْ الْغُرْمِ شَرْعًا عَلَى الْقُرْبِ يَخْتَصُّ بِهِ أَصْحَابُ الْمِلْكِ دُونَ السُّكَّانِ، وَهُوَ الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْغُرْمِ شَرْعًا وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ خَيْبَرَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُلَّاكًا قَدْ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ؛ فَلِهَذَا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَظَّفَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَمْلِكُ عَلَيْهِمْ الْأَرَاضِيَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي السِّجْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَا دَامُوا فِيهِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: أَهْلُ السِّجْنِ مَقْهُورُونَ فِي الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُمْ قَلَّ مَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهِ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ إلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُعَدٌّ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَدِيَةُ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ.
وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ رَجُلٍ قَدْ اشْتَرَاهَا، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْخُطَّةِ فَأَهْلُ الْخُطَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي حِفْظِ الْمِلْكِ الْخَاصِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَالْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِي مِلْكٍ خَاصٍّ يُجْعَلُ كَأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ هُوَ الْقَاتِلُ لَهُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ نَصِيبًا مِنْ الْآخَرِ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِحِفْظِ الْمَكَانِ، وَالتَّدْبِيرَ فِيهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ لَا بِاعْتِبَارِ قَدْرِ الْمِلْكِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي الْمَغْنَمِ الْمُسْتَحَقِّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ أَصْلُ الْمِلْكِ، وَهُوَ الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْغُرْمِ.
، وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا فِي هَذِهِ الدَّارِ جُعِلَ هُوَ كَالْمُبَاشِرِ لِقَتْلِهِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَ نَفْسِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَا لَوْ أَنَّ عَبْدَهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِيهِ كَانَ مُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَدُوهُ فِيهَا قَتِيلًا لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّ وَلَا يُنْظَرُ إلَى كَوْنِ الدَّارِ فِي الْحَالِ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ وَعِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَالَ لَكَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُتْرَكُ فِي الْإِسْلَامِ مُفْرَحٌ» أَيْ مُهْدَرُ الدَّمِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي مَوْضِعٍ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَوَاقِلِهِ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِ كَمَا لَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ قَتِيلًا فِي الْمَحَلَّةِ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ فِيهِ قَتِيلًا لَكَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّبَبَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ.
وَحِينَ وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا كَانَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً لِوَرَثَتِهِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْوَارِثِ، وَالْمُوَرِّثِ تَتَّحِدُ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَخْتَلِفُ الْعَاقِلَةُ فَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ، ثُمَّ إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَتِيلًا فِي دَارِهِ إنَّمَا يَجْعَلُ الدِّيَةَ، وَالْقَسَامَةَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا وَجَدُوهُ قَتِيلًا فِيهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ كَأَنَّ غَيْرَهُ قَتَلَهُ وَعِنْدَ الْقَتْلِ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي حِفْظِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِ، فَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ إذَا قُلْتُمْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَعْقِلُوا عَنْهُمْ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ، ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ إذَا قَتَلَ أَبَاهُ فَإِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَكُونُ مِيرَاثًا لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ يُوجَدُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا إنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ كَالْقَاتِلِ لَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ بَاقٍ بَعْدَمَا وُجِدَ فِيهِ قَتِيلًا؛ فَلِهَذَا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَأَمَّا هَاهُنَا إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَتِيلًا إنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ كَالْقَاتِلِ لَهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ حِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ إلَى وَرَثَتِهِ؛ فَلِهَذَا افْتَرَقَا، وَالْقَتِيلُ عِنْدَنَا كُلُّ مَيِّتٍ بِهِ أَثَرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ- أَثَرٌ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إنَّمَا هَذَا مَيِّتٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَسَامَةِ ثَبَتَ شَرْعًا فِي الْمَقْتُولِ، وَالْمَقْتُولُ إنَّمَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فَمَنْ لَا أَثَرَ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتٌ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى صِيَانَةِ دَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ بِخِلَافِ مَنْ بِهِ أَثَرٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ يَكُونُ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ غُسِّلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعٍ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ عَادَةً مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ عَادَةً إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأُذُنِ، فَهُوَ قَتْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشَّهِيدِ.
، وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْقَتِيلِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَقَالُوا: قَتَلَهُ فُلَانٌ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً لَمْ يُبْطِلْ هَذَا حَقَّهُ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ بِدَعْوَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لَنَا حَقِيقَةً أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَفِدْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى شَيْئًا لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فَتَبْقَى الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَمَا كَانَ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمَوْلَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ يَكُونُ إبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ فِي قَتِيلٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ صَارَ مُبَرِّئًا لَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالْحُجَّةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ.
وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصَمَاءُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكَانُوا بِمَعْنَى الشَّاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُمْ يُحَلِّفُهُمَا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا؛ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ الْقَاتِلَ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفَانِ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْلِفَانِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا سِوَى فُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ ادَّعَى الْأَوْلِيَاءُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَقَدْ أَبْرَأَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلتَّنَاقُضِ، فَإِنْ أَقَامُوا شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ بِذَلِكَ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ حِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِمْ، فَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْغَرَضِيَّةُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَصْلًا فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ فِيهَا كَالشَّفِيعِ إذَا شَهِدَ بِالْبَيْعِ بَعْدَمَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَ، ثُمَّ شَهِدَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ قَدْ وَقَعَتْ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى غَيْرِهِمْ عَلَى الْبَتَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِشَيْءٍ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ فِيهَا وَلِأَنَّا إنَّمَا كُنَّا نُحَلِّفُهُمْ عَلَى الْعِلْمِ لِيُظْهِرُوا الْقَاتِلَ إنْ عَلِمُوا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ حِسْبَةً بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُظْهِرُونَهُ حِسْبَةً بِالشَّهَادَةِ، بَلْ يُسْقِطُونَ بِهِ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِيهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ صَارُوا خُصَمَاءَ فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهَا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ كَالْوَكِيلِ إذَا خَاصَمَ فِي الْمَجْلِسِ يَعْنِي مَجْلِسَ الْحُكْمِ، ثُمَّ عُزِلَ فَشَهِدَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلدِّيَةِ، وَالْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَبِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ خَرَجُوا مِنْ الْخُصُومَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا خُصَمَاءَ لِكَوْنِ الْوَلِيِّ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِالشَّهَادَةِ تَأْكِيدَ تِلْكَ الْبَرَاءَةِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ قَصَدَ بِتِلْكَ الْبَرَاءَةِ تَصْحِيحَ- شَهَادَتِهِمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوَلِيِّ فَتَوَاضُعُهُمْ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِيَشْهَدُوا لَهُ فَلِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ امْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ، وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عِنْدِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ وَأَقَامُوا عَلَيْهِ بَيِّنَةً مِنْ غَيْرِهِمْ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْخُصُومَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَنْ ادَّعَى نَفْيَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْنَ وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَخَذُوهُ بِالدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصَمَاءُ فِي إسْقَاطِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا فِي إثْبَاتِ مُوجِبِ الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ، إنَّمَا الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ الْوَلِيُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَاهُ؛ لِيَقْضِيَ بِمُوجِبِ الْقَتْلِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَإِذَا وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ، أَوْ نِصْفُ الْبَدَنِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ فِي مَحَلَّتِهِمْ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ، أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ، أَوْ وُجِدَتْ رِجْلُهُ أَوْ يَدُهُ، أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ بِقَتِيلٍ إذْ الْأَقَلُّ لَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ، ثُمَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ وَاحِدٍ فَإِنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا بِوُجُودِ النِّصْفِ فِي هَذِهِ الْمَحَلَّةِ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِهَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نُوجِبَ إذَا وَجَدْنَا النِّصْفَ الْآخَرَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِهَا.
وَتَكْرَارُ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا وُجِدَ الْعَبْدُ، أَوْ الْمُكَاتَبُ، أَوْ الْمُدَبَّرُ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ، وَالْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْمَمَالِيكِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي الْأَحْرَارِ وَلِنَفْسِ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْحُرْمَةِ وَوُجُوبِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ مَا لِنَفْسِ الْحُرِّ بِدَلِيلِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ.
وَأَمَّا الدَّوَابُّ، وَالْبَهَائِمُ، وَالْعُرُوضُ فَلَا قَسَامَةَ فِيهَا وَلَا قِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِلنَّفْسِ وَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ، أَوْ سَقْطٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ كَالْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَبِهِ أَثَرٌ، فَهُوَ قَتِيلٌ وَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ لِنَفْسِ الصَّغِيرِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنَفْسِ الْكَبِيرِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَلَوْ وُجِدَ الْحُرُّ قَتِيلًا فِي دَارِ أَبِيهِ، أَوْ أُمِّهِ، أَوْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ زَوْجِهَا فَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ جَزَاءَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الْخَطَرِ، وَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ خَاصَّةً لِلصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ، فَهُوَ نَظِيرُ التَّسَبُّبِ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ خَاصَّةً دُونَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً فِي مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ، فَالْقِيمَةُ عَلَى مَوْلَاهُ فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَبَدَلُهُ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لَهُ فَيَكُونُ فِي مَالِهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَمَا بَقِيَ يَكُون مِيرَاثًا.
وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ، أَوْ يَقُودُهَا أَوْ هُوَ رَاكِبُهَا، فَهُوَ عَلَى الَّذِي مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَبِالْيَدِ عَلَيْهَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ وَطِئَتْ إنْسَانًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ عَلَيْهَا قَتِيلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الدَّابَّةِ أَحَدٌ، فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى الدَّابَّةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الدَّابَّةُ مَوْقُوفَةً فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَدْبِيرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَتَدْبِيرِ مَا فِيهَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ قَتِيلًا، فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ عَلَى دَارِهِ، وَإِذَا وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلًا كَانَتْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ عَلَى رَأْسِهِ أَوْلَى، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي سَفِينَةٍ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ الرُّكَّابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الَّذِينَ هُمْ فِيهَا، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ السُّكَّانَ، وَالْمُلَّاكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ سَوَاءً فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي السَّفِينَةِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَفِي الْمَحَلَّةِ السُّكَّانُ لَا يُشَارِكُونَ الْمُلَّاكَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الْمَحَلَّةِ إلَى الْمُلَّاكِ دُونَ السُّكَّانِ وَفِي السَّفِينَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فِي تَدْبِيرِهَا سَوَاءٌ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدَ دُونَ الْمِلْكِ فَإِنَّهَا مَرْكَبٌ كَالدَّابَّةِ فَكَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ عَلَى الدَّابَّةِ هُوَ الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي السَّفِينَةِ وَهُمْ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ.
وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ يَجْرِي الْمَاءُ بِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّهْرِ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فَقَهْرُ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَغَارَةِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا لِقَوْمٍ مَعْرُوفِينَ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي كَرْيِهِ وَإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ إلَيْهِمْ وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالِانْتِفَاعِ بِمَائِهِ سَقْيًا لِأَرَاضِيِهِمْ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ، وَالصَّغِيرِ مَا بَيَّنَّا فِي الشُّفْعَةِ، فَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ مِثْلُ الْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ، فَإِنْ كَانَ إلَى جَانِبِ الشَّاطِئِ مَحْبِسًا، فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى إلَيْهِ، وَالْأَرَضِينَ، فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ إلَى جَانِبِ الشَّاطِئِ كَالْمُلْقَى عَلَى الشَّاطِئِ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِقُرْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَخَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْمَاءَ مِنْهُ وَيَسُوقُونَ دَوَابَّهُمْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلسَّقْيِ، وَإِذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ صَوْتَ مَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَكَذَا فَسَّرَهُ الْكَرْخِيُّ.
وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي فَلَاةٍ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَعْلَى صَوْتِهِ أَهْلَ الْعُمْرَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ صَوْتُهُ مِنْ الْعُمْرَانِ وَهُمْ أَحَقُّ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ لِرَعْيِ مَوَاشِيهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِنْ وُجِدَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ، فَهُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ سُوقُ الْعَامَّةِ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ فِي التَّدْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِهِ سَوَاءٌ وَمَا يَجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَسَامَةِ نَفْيُ تُهْمَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي سُوقٍ خَاصٍّ لِأَهْلِ صَنْعَةٍ يُنْسَبُ ذَلِكَ السُّوقُ إلَيْهِمْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ، فَهُوَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالتَّدْبِيرِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ فَتْحُ الْبَابِ وَإِغْلَاقُهُ وَنَصْبُ الْمُؤَذِّنِ.
وَالْإِمَامُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي مَحَلَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ رَجُلٍ خَاصٍّ يَمْلِكُهَا فِي السُّوقِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ مِلْكِهِ وَبِالْأَمْرِ بِحِفْظِ مِلْكِهِ لِكَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الْمَحَلَّةِ.
، وَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَاهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يَجِيءُ وَيَذْهَبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ، وَالْجَرِيحُ غَيْرُ الْقَتِيلِ، وَلَوْ جُعِلَ مَوْتُهُ مُحَالًا عَلَى تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، أَوْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَعْدَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْجَارِحُ مَعْلُومًا.
وَجْهُ قَوْلِنَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَهُوَ مَرِيضٌ، وَالْمَرَضُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ مِنْ أَوَّلِ سَبَبِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْحَالُ كَالْحَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ جُرِحَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ صَحِيحًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَيِّتِ مِنْ حِينِ جُرِحَ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ وَعَلَى هَذَا الْجَرِيحِ إذَا وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانِ يَحْمِلُهُ إلَى بَيْتِهِ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ عَلَى الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ وَفِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا شَيْءَ فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الْعَسْكَرِ، وَالْعَسْكَرُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ، فَهُوَ عَلَى الْقَبِيلَةِ الَّتِي وُجِدَ فِي رِحَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ سُكَّانٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَادَامُوا نَازِلِينَ وَأَهْلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ يَنْزِلُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُنَازِعُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي تَدْبِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَكَانُوا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْيَدُ وَأَهْلُ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي رِحَالِهِمْ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِالْيَدِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِي مِلْكِهِ وَوِلَايَةُ حِفْظِ مِلْكِهِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا مُعْتَبَرَ بِالسُّكَّانِ مَعَ الْمُلَّاكِ وَقِيلَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّازِلِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ السُّكَّانُ كَالْمُلَّاكِ، وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فُسْطَاطِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَتَكُونُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِحِفْظِ الْفُسْطَاطِ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي دَارِهِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ إذَا كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا، أَوْ أَكْثَرُ وَأَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ خَمْسِينَ مَرَّةً هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ عَلَى وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الضَّرُورَةُ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ رَجُلٍ أَوْ فُسْطَاطِهِ، وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَسْكَرِ فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ إذَا كَانَ الْقَتِيلُ إلَيْهِمَا سَوَاءً، بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ الْمَحَلَّتَيْنِ إذَا كَانَ إلَيْهِمَا سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَدْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ فَلَا قَسَامَةَ فِي الْقَتِيلِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلُ الْأَعْدَاءِ عِنْدَمَا الْتَقَى الصَّفَّانِ لِلْقِتَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا يَقْتُلُ مَنْ يُعَادِيهِ لَا مَنْ يُؤَازِرُهُ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِاعْتِبَارِ نَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَقَدْ انْعَدَمَ هَاهُنَا، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ مُخْتَلِطًا فَوُجِدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَتِيلٌ، فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ أَهْلِ الْأَخْبِيَةِ إلَيْهِ عَلَى مَنْ فِي الْخِبَاءِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْبَ مُعْتَبَرٌ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ.
وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْقَسَامَةِ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالْمَمَالِيكُ مِنْ الْمُكَاتَبِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعٌ فِي السُّكْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُزَاحِمُونَ أَهْلَ الْقَبِيلَةِ فِي التَّدْبِيرِ فِي قَتِيلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهَا دُونَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ النُّصْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ.
وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ فِي مِصْرٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ عَشِيرَتِهَا أَحَدٌ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى تَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، ثُمَّ تُفْرَضُ الدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ يُضَمُّ إلَيْهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ مِنْهَا فَيُقْسِمُونَ وَيَعْقِلُونَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ كَالصَّبِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الصَّبِيِّ، فَالْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْمَرْأَةِ، وَعَاقِلَتُهَا هُمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَالدِّيوَانِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَالْمَرْأَةُ فِي الْمِلْكِ كَالرَّجُلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِي مِلْكِهَا، وَأَنَّ الْوِلَايَةَ فِي حِفْظِ مِلْكِهَا إلَيْهَا فَكَانَتْ كَالرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا يَقُومُ بِحِفْظِ مِلْكِهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ كَالرَّجُلِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهَا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ، وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ، وَالْقَسَامَةُ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مُلْزِمٍ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ، فَالْمَرْأَةُ فِي الْمَحَلَّةِ مِثْلُ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَقُومُ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ، وَالدَّفْعِ عَنْهَا، وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا.
ثُمَّ ظَاهِرِ مَا يَقُولُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ فِي مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ فَعَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ، وَالْمَرْأَةُ تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هِيَ لَا تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ لَا تَقُومُ بِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُبَاشِرَةُ لِلْقَتْلِ فَعَلَيْهَا جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ أَحَقُّ مِنْ الْعَوَاقِلِ بِاعْتِبَارِ مُبَاشَرَتِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَعَلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ جُزْءٌ مِنْهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وُجُوبُ جُزْءٍ عَلَى الْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مِلْكِهِ إلَيْهِ وَفِي هَذَا: الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي تَدْبِيرِ مِلْكِهِ كَالْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ الذِّمِّيُّ نَازِلًا فِي قَبِيلَةٍ مِنْ الْقَبَائِلِ فَوَجَدَ فِيهَا قَتِيلًا لَمْ يَدْخُلْ الذِّمِّيُّ فِي الْقَسَامَةِ وَلَا فِي الْغَرَامَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُزَاحِمُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّدْبِيرِ فِي الْقَبِيلَةِ، وَالْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ أَتْبَاعٌ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ مَعَ الْمُلَّاكِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ.
وَإِذَا كَانَتْ مَدِينَةً لَيْسَ فِيهَا قَبَائِلُ مَعْرُوفَةٌ وُجِدَ فِي بَعْضِهَا قَتِيلٌ فَعَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْمُجَاوَرَةِ هَاهُنَا لَمَّا لَمْ تَجْمَعُهُمْ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَلَا دِيوَانٌ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ مَعْنَى النُّصْرَةِ؛ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُمْ الدِّيَةَ، وَالْقَسَامَةَ، وَإِذَا أَبَى الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ أَنْ يَقْسِمُوا حُبِسُوا حَتَّى يُقْسِمُوا؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ تُهْمَةِ الْقَتِيلِ، وَقَدْ ازْدَادَتْ بِنُكُولِهِمْ، وَالْأَيْمَانُ مَقْصُودَةٌ هَاهُنَا فَيُحْبَسُونَ لِإِيفَائِهَا.
وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَالْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، فَالدَّارُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقُومُ بِالتَّدْبِيرِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِاسْتِدَامَةِ الْمَوْلَى الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْمَوْلَى أَخَصُّ بِهَذِهِ الدَّارِ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُمْ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ وَيَسْتَخْلِصَ الدَّارَ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَأْذُونِ وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ دِيَةِ الْقَتِيلِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِيَدِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ كَالْحُرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ فِيهِ قَوْلًا مُلْزِمًا بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ خَطَأً لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي ذَلِكَ فَيُجْعَلُ الْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِي دَارِهِ كَالْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْمَوْلَى.
وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ؛ لِيَتَامَى صِغَارٍ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ عَشِيرَتِهِمْ أَحَدٌ فَلَيْسَ عَلَى الْيَتَامَى قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلَكِنْ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ الدِّيَةُ، وَالْقَسَامَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرُوا الْقَتْلَ بِأَيْدِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُدْرِكًا فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا مُلْزِمًا فِي الْجِنَايَةِ، ثُمَّ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ الدِّيَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ الْيَتَامَى فَإِنَّ الْيَتَامَى لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَالتَّنَاصُرِ بِالدِّيوَانِ، فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ النِّسَاءِ.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.